تقوم العلاقات الدولية تاريخياً على مفهوم أساسي هو توازن القوى، وهو الإطار الذي يسعى للحفاظ على استقرار النظام العالمي من خلال مجموعة من القواعد التي تفرضها القوى العظمى. هذا التوازن ليس مجرد اتفاق غير مكتوب، بل هو ضرورة لضمان عدم هيمنة قوة واحدة على النظام الدولي، مما قد يؤدي إلى الفوضى والحروب. في هذا السياق، يمكن فهم الصراعات الكبرى التي هزّت العالم، مثل حروب نابليون في القرن التاسع عشر والحرب العالمية الثانية في القرن العشرين، كأمثلة على محاولة قوى معينة كسر هذا التوازن. واليوم، يمكن إسقاط هذه الدروس التاريخية على الوضع الحالي مع إيران، التي تواجه انتقادات دولية بسبب سياساتها التي يُنظر إليها على أنها تهدّد النظام العالمي القائم.
منذ أن بدأ النظام الدولي بالتشكّل في صورته الحديثة، وخاصة بعد معاهدة وستفاليا عام 1648، أصبح توازن القوى مفهوماً محورياً للحفاظ على الاستقرار بين الدول. تقوم فكرة التوازن على منع أي دولة أو تحالف من السيطرة المطلقة على النظام الدولي. لتحقيق ذلك، تعمل القوى الكبرى على إنشاء قواعد ومعاهدات تنظم العلاقات الدولية، مثل معاهدات السلام والتحالفات العسكرية، لضمان بقاء النظام العالمي في حالة استقرار نسبي.
لكن عندما تسعى إحدى القوى إلى كسر هذا التوازن لصالحها، فإن ذلك يؤدي غالباً إلى نشوب صراعات كبرى. وقد كانت حروب نابليون في أوروبا والحرب العالمية الثانية مثالين واضحين على ذلك. فكلتا الحالتين شهدتا محاولات من قوى طموحة لإعادة تشكيل النظام العالمي بالقوة، مما أدّى إلى تدخّل القوى الأخرى لاستعادة التوازن.
في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، قاد نابليون بونابرت فرنسا في سلسلة من الحروب التي هدفت إلى فرض سيطرة فرنسية على أوروبا. كانت رؤية نابليون للنظام الدولي تقوم على هيمنة فرنسا وتفكيك النظام القديم الذي كانت تديره قوى مثل بريطانيا والنمسا وروسيا.
هذه الحروب، التي عُرفت باسم الحروب النابليونية، لم تكن مجرد نزاعات إقليمية، بل كانت محاولة لإعادة صياغة النظام الدولي بأكمله. ورغم نجاح نابليون في تحقيق انتصارات عسكرية كبرى، إلّا أن تحالف القوى الأوروبية، المدعوم بفكرة توازن القوى، تمكّن في النهاية من هزيمته. قادت معركة واترلو عام 1815 إلى سقوط نابليون ونهاية طموحاته الإمبراطورية، مما أعاد الاستقرار إلى أوروبا من خلال مؤتمر فيينا، الذي أعاد تشكيل النظام الدولي على أسس جديدة.
بعد أكثر من قرن، شهد العالم محاولة أخرى لكسر النظام الدولي من خلال صعود أدولف هتلر في ألمانيا. كان هتلر يسعى لإعادة بناء الإمبراطورية الألمانية وفرض هيمنة نازية على أوروبا. تحدّت سياساته التوسعية، مثل غزو بولندا وفرنسا، النظام الدولي الذي أُسس بعد الحرب العالمية الأولى.
كما هو الحال مع نابليون، أدّى صعود هتلر إلى زعزعة التوازن الدولي، مما استدعى رد فعل من القوى العالمية الكبرى مثل بريطانيا، الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة. أسفرت الحرب العالمية الثانية عن خسائر بشرية ومادية هائلة، لكنها انتهت بإعادة تشكيل النظام الدولي مرة أخرى، هذه المرة من خلال إنشاء مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة لضمان استقرار النظام العالمي ومنع تكرار مثل هذه الصراعات.
في السياق المعاصر، تواجه إيران اتهامات بأنها تحاول كسر التوازن القائم في النظام الدولي من خلال سياساتها الإقليمية والدولية. منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تبنّت إيران سياسة خارجية تتحدّى الهيمنة الغربية، خاصة الولايات المتحدة، وتسعى لفرض نفوذها في منطقة الشرق الأوسط.
تتجلّى هذه السياسات في دعم إيران لجماعات مسلحة في دول مثل لبنان، العراق، واليمن، بالإضافة إلى تطوير برنامج نووي أثار قلقاً عالمياً. ترى القوى الكبرى أن هذه السياسات لا تتماشى مع قواعد النظام الدولي، مما أدّى إلى فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على إيران ومحاولات للضغط عليها للعودة إلى طاولة المفاوضات.
بالنظر الى محاولات سابقة، يمكن لإيران أن تستخلص دروساً مهمة. محاولات كسر النظام الدولي أو تحدّي توازن القوى غالباً ما تؤدي إلى نتائج كارثية. كما رأينا مع نابليون وهتلر، فإن القوى الكبرى لن تسمح لأي دولة بفرض هيمنتها على النظام العالمي، أو كسر بعض التوازنات الإقليمية، بدلاً من ذلك، تسعى هذه القوى إلى الحفاظ على التوازن من خلال التعاون الدولي أو التدخل عند الضرورة.
إن استمرار إيران في سياساتها الحالية، فهي تخاطر بمواجهة نفس المصير الذي واجهته القوى التي حاولت تحدّي النظام الدولي من قبل. لكن إذا اختارت العمل ضمن إطار النظام الدولي القائم، فإن ذلك يمكن أن يحقق لها فوائد كبيرة، بما في ذلك تحسين علاقاتها مع الدول الأخرى ورفع العقوبات الاقتصادية التي تعيق تطوّرها.
النظام الدولي ليس مثالياً، لكنه الإطار الوحيد المتاح للحفاظ على الاستقرار العالمي. تقوم قواعد هذا النظام على التعاون بين الدول واحترام السيادة وتجنّب التدخّل في شؤون الآخرين. إذا أرادت إيران أن تكون جزءاً من هذا النظام، فإنها بحاجة إلى تعديل سياساتها بما يتماشى مع هذه القواعد، وهنا تبرز الطروحات الغربية وتحديداً الأميركية المتمثلة في التوجه لتعديل سلوك النظام الإيراني وليس إسقاطه.
قد تكون أحداث السابع من تشرين الأول عام 2023، بمثابة محاولة فهمها الغرب وكأنها مبادرة إيرانية لضرب التوازن القائم في المنطقة وربما في العالم، وهنا كانت ردة الفعل القوية لضرب المحور الذي تقوده ايران.
إن النظام العالمي يقوم على توازن حساس ترعاه مجموعة من القواعد التي تضعها القوى العظمى. عبر التاريخ، أدّت محاولات كسر هذا التوازن إلى حروب مدمرة، كما رأينا مع نابليون وهتلر. واليوم، تواجه إيران خياراً مهماً: إما العمل ضمن هذا النظام لتحقيق مصالحها بطرق سلمية، أو مواجهة عزلة دولية وربما صراعات جديدة. التاريخ يقدم درساً واضحاً: الحفاظ على التوازن الدولي هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار والازدهار للجميع.