في مطلع القرن التاسع عشر، اجتمعت القوى الأوروبية الكبرى في مؤتمر فيينا (1815) لصياغة نظام دولي جديد يهدف إلى تحقيق توازن القوى بعد الحروب النابليونية. اعتمد المؤتمر نهجاً استراتيجياً لتقليص هيمنة فرنسا مع إبقائها جزءاً من النظام العالمي. على غرار هذه الديناميكيات، تبدو الاستراتيجية الأميركية الحالية في الشرق الأوسط، وخصوصاً تجاه إيران، مشابهة في كثير من جوانبها لما جرى في مؤتمر فيينا.
تلعب إسرائيل دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية بوصفها الحليف الأساسي للولايات المتحدة، حيث تستخدم واشنطن علاقتها مع إسرائيل كوسيلة لاحتواء إيران وتقييد طموحاتها الإقليمية. ومع ذلك، فإن الهدف الأميركي يبدو أكبر من مجرد احتواء إيران، إذ قد تسعى واشنطن على المدى البعيد إلى إعادة إيران إلى «الحضن الأميركي»، بما يعزز النظام الدولي الذي تهيمن عليه. المثير للاهتمام أن هذه الرؤية قد لا تكون بعيدة عن تطلّعات طهران نفسها، التي تسعى بدورها إلى تحقيق مصالحها ضمن إطار من التفاهم مع الغرب.
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تحوّلت إيران إلى قوة إقليمية تسعى إلى كسر الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. وقد أدّى ذلك إلى سلسلة من الصراعات غير المباشرة بين الطرفين، سواء عبر العقوبات الاقتصادية، أو المواجهات بالوكالة في سوريا واليمن، أو التوترات حول البرنامج النووي الإيراني. لكن بالنظر إلى هذه السياسات من زاوية أوسع، نجد أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تدمير إيران كدولة، بل تهدف إلى احتواء نفوذها وإعادة صياغة دورها بما يتماشى مع المصالح الأميركية.
هذه الاستراتيجية تستمد الكثير من مبادئ مؤتمر فيينا، حيث عملت القوى الأوروبية على احتواء فرنسا دون عزلها أو تحطيمها بالكامل. فبعد الهزائم التي تعرّضت لها فرنسا في الحروب النابليونية، رأى القادة الأوروبيون أن الاستقرار الأوروبي يتطلب وجود فرنسا قوية، ولكن منضبطة ضمن نظام يوازن بين القوى الكبرى. وبالمثل، تسعى واشنطن إلى تحويل إيران من قوة متمردة إلى شريك محتمل، دون السماح لها بأن تصبح مهيمنة على المنطقة.
تلعب إسرائيل دوراً رئيسياً في الاستراتيجية الأميركية لاحتواء إيران، إذ تمثل شريكاً وثيقاً لواشنطن في الشرق الأوسط، وقوة ردع فعّالة ضد طهران.
تمتلك إسرائيل قدرات عسكرية وتقنية متقدمة تجعلها في طليعة المواجهة مع إيران. من خلال هجماتها السيبرانية وعملياتها الاستخباراتية، أثبتت إسرائيل قدرتها على تقويض الطموحات الإيرانية، خاصة فيما يتعلق ببرنامجها النووي. العمليات التي استهدفت منشآت إيران النووية واغتيال علماء إيرانيين هي أمثلة على الدور الفعّال الذي تلعبه إسرائيل في تطبيق سياسة الاحتواء الأميركية.
على الصعيد السياسي، تُعتبر إسرائيل حليفاً استراتيجياً يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليه لتحقيق توازن القوى في الشرق الأوسط. إن إسرائيل لا تعمل فقط كأداة للردع، بل تساعد واشنطن في تحقيق أهدافها الطويلة الأمد تجاه إيران. فالدور الإسرائيلي في تصعيد الضغوط على طهران يخدم الهدف الأميركي الأكبر: إجبار إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات ضمن شروط تضمن مصالح واشنطن وحلفائها.
كما كان هدف مؤتمر فيينا تحقيق توازن قوى يمنع الهيمنة المطلقة لأي دولة، تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان توازن استراتيجي في الشرق الأوسط، بحيث لا تصبح إيران قوة مهيمنة تهدّد استقرار المنطقة. لتحقيق ذلك، تستخدم واشنطن أدوات متعددة تشمل العقوبات الاقتصادية، والدبلوماسية، ودعم الحلفاء الإقليميين.
أحد أهم دروس مؤتمر فيينا هو أن الاستقرار الدولي لا يتحقق عبر تدمير الخصوم، بل من خلال إدماجهم ضمن النظام العالمي. فرنسا، بعد هزيمتها، لم تُقصَ بالكامل من النظام الأوروبي بل أُعيد دمجها كلاعب رئيسي، مما ساعد في تحقيق توازن طويل الأمد. وبالمثل، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى إدماج إيران ضمن النظام الدولي، ولكن بشروط تضمن أنها لن تُهدد المصالح الأميركية.
إيران، من جهتها، قد تكون راغبة في العودة إلى التفاهم مع الغرب إذا ضمنت احترام دورها الإقليمي واستقلالها السياسي. ورغم أن طهران تتبنّى خطاباً عدائياً تجاه الولايات المتحدة، فإنها تدرك أن إنهاء عزلتها الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية أمران ضروريان لاستقرارها الداخلي وتعزيز موقعها الإقليمي.
رغم وضوح الأهداف، تواجه الولايات المتحدة تحدّيات كبيرة في تنفيذ استراتيجيتها تجاه إيران.
إيران ليست خصماً سهلاً؛ فهي تمتلك شبكة واسعة من الحلفاء الإقليميين مثل حزب لله في لبنان، والميليشيات الشيعية في العراق، والحوثيين في اليمن. هذه الشبكات تمنح إيران نفوذاً كبيراً يعقّد جهود الاحتواء الأميركية.
رغم تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة، تُعارض إسرائيل بشدّة أي تقارب أميركي - إيراني. تخشى إسرائيل أن يؤدي رفع العقوبات عن إيران أو التوصل إلى اتفاق نووي جديد إلى تعزيز قدرات طهران العسكرية والاقتصادية، مما يهدّد أمنها.
إلى جانب إسرائيل، تعتمد واشنطن على دول الخليج العربي كجزء من استراتيجيتها لاحتواء إيران. لكن هذه الدول نفسها قد تكون مترددة في دعم أي تقارب بين واشنطن وطهران، خاصة إذا شعرت أن ذلك قد يأتي على حساب مصالحها الأمنية، لكن واقع الأمور قد اختلف مؤخراً، خاصة بعد التقارب العربي - الإيراني، حيث اعتمد العرب مبدأ صفر مشاكل، وبالمثل اعتمدت إيران.
العداء التاريخي بين الولايات المتحدة وإيران يجعل من الصعب بناء ثقة متبادلة. انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في 2018 عزّز مخاوف طهران من عدم موثوقية الولايات المتحدة كشريك تفاوضي، فيما ترى واشنطن أن إيران قد تستخدم أي اتفاق كغطاء لتعزيز قدراتها النووية والإقليمية.
رغم التحديات، قد تكون هناك فرص حقيقية لتحقيق تفاهم طويل الأمد بين الولايات المتحدة وإيران.
فرص المصالحة:
• المصالح الاقتصادية المشتركة: تحتاج إيران إلى إنهاء العقوبات الاقتصادية لتعزيز استقرارها الداخلي، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى منع نشوب صراعات جديدة مكلفة في الشرق الأوسط.
• التهديدات المشتركة: يمكن أن تُشكّل تهديدات مثل الإرهاب والتطرف أرضية للتعاون بين واشنطن وطهران.
قيود المصالحة:
• التأثير الإسرائيلي والخليجي: قد تعيق الضغوط من حلفاء واشنطن أي جهود لتخفيف التوتر مع إيران.
• الخلافات الأيديولوجية: الفجوة الأيديولوجية بين النظامين الأميركي والإيراني تُعقّد إمكانية بناء شراكة حقيقية.
تعتمد الولايات المتحدة على إسرائيل كركيزة أساسية لاحتواء إيران في إطار استراتيجية تُذكِّر بنهج مؤتمر فيينا في القرن التاسع عشر. الهدف ليس فقط الحد من نفوذ إيران، بل إدماجها في نظام دولي تسيطر عليه واشنطن، بما يضمن الاستقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط.
ومع أن التوترات بين الولايات المتحدة وإيران قد تبدو عصيّة على الحل، فإن الرؤية الأميركية طويلة الأمد تتضمن احتمالية التقارب مع طهران إذا توفرت الظروف المناسبة. من جانبها، قد ترى إيران في هذا التقارب فرصة لتحقيق مصالحها الاقتصادية والإقليمية، شريطة أن تُحترم استقلاليتها.
مثلما نجح مؤتمر فيينا في إعادة صياغة النظام الأوروبي بعد الحروب النابليونية، قد تكون هناك فرصة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط إذا أُدير الصراع الأميركي - الإيراني بحكمة. لكن تحقيق ذلك يتطلب توازناً دقيقاً بين الاحتواء والإدماج، مع معالجة الهواجس الإسرائيلية والخليجية على حد سواء.