تمّ إنشاء الأهراءات عام 1970، وهي بناء معماري حديث وجزء مألوف من التراث العمراني للمدينة. عند الانفجار كانت تحتوي على 85 في المئة من مخزون القمح؛ بعد الانفجار، فقدت وظيفتها كصوامع للقمح، واكتسبت قيمة تراثية إضافية كرمز مدوّ لتخليد ذكرى المدينة. على بُعد 85 متراً من مركز الانفجار، لا تزال 14 من 48 صومعة قائمة (حتى الأسبوع الفائت حيث انهار الجزء الشمالي منها بعد احتراقه). وإلى جانب الحفرة القريبة التي يبلغ عمقها 43 متراً، تجسّد الأهراءات هول الإنفجار وتحمل مأساة المدينة وضحاياها.
قدّمت مجموعة من 25 خبيراً في الهندسة المعمارية التراثية تقريراً لليونيسكو ووزارة الثقافة، وتمّ إقراره في إعلان بيروت العمراني (2021) - وهو مبادرة من قبل نقابة المهندسين اللبنانيين تدعو إلى إعادة تأهيل التراث وإعادة بناء النسيج الاجتماعي للمناطق المتضررة من الانفجار. وقد تمّت المطالبة بتصنيف الأهراءات على أنها "تراث محميّ"، مع التأكيد على قيمتها المعمارية والتراثية، وأهمية الحفاظ عليها كجزء أساسي من الذاكرة الوطنية الجماعية.
ويشير مرجع متخصّص في العمارة إلى أهمية المباني التراثية، وعدم إزالة أيّ بناء مرتبط بالذاكرة بشكل خاص، إذ أنّ أساس البيئة المشيّدة هو الذكريات التي تبدأ منذ اللحظة الأولى لإنشائها وتستمرّ وتتراكم بمرور الزمن، وهذا ما يمثل حاجة نفسية للإنسان. هذه الذكريات ليست إيجابية دائماً إذ قد تكون سلبية في بعض الأحيان، وتختلف من فرد إلى آخر بحسب طبيعتها ورمزيتها إضافة إلى شخصية الأفراد والفروق الفردية بينهم. ومن المهم الإشارة إلى انّ الذكريات المرتبطة بالأهراءات لم تتكون في لحظة الإنفجار بل تمتد إلى ما قبله، بالرغم من أنّ البعض يعتبرها مصدراً للذكريات المؤلمة بسبب ارتباطها بانفجار المرفأ. لذلك يجب اعتبار الأهراءات معلماً تذكارياً ذو قيمة تراثية وتاريخية، يجب الحفاظ عليه وعلى الذكريات السارة وغير السارة المتعلقة به. وطالما كانت مصدراً لتكوين الذكريات لدى الأفراد، وشكلت قيمة للمجتمع، واستوفت الغرض من إنشائها، فإنّ تصدّعها أو تعرّضها لتدمير جزئي لا يفرض ضرورة هدمها والتخلص منها، بل هناك العديد من الطرق المبتكرة لترميمها والحفاظ على معناها بالنسبة للأفراد وللمجتمع.
ومع ذلك، قررت السلطات الرسمية هدم الأهراءات، ورفضوا أدلة الحفاظ عليها باعتبار أنها "عاطفية". وهي بذلك تطمس الحقيقة، وتفرض فقداناً قسرياً للذاكرة الجماعية، وتفتّت هوية الوطن. وهذا يجب أن يكون الدافع الأقوى للبنانيين لضرورة الحفاظ على أهراءات مرفأ بيروت. فالأهراءات ليست مجرد "كتلة خرسانية" بل هي "كتلة رمزية" حمت جزءاً كبيراً من بيروت من الدمار، وهي بذلك تمثل الذاكرة الجماعية للمواطنين. هذا إضافة إلى الناحية النفسية، إذ من المهم الحفاظ على الأهراءات بالنسبة لأهالي الضحايا وللشعب اللبناني، ويجب أن تبقى شاهداً إنسانياً حياً في ذاكرة الأجيال لكي لا تتكرر المأساة أو يتمّ نسيانها.
إنّ أخطر ما يواجه شعب ما هو طمس ذاكرته الجماعية، وجعله بلا تاريخ وبلا ذكريات. وتتشكل الذاكرة الجماعية من مجموعة مشتركة من المعرفة، وأنماط التفكير، والقيم، والمعتقدات الإجتماعية، والذكريات الجماعية للأحداث، ورموز ونصوص وقصص وصور تشارك في بناء الهوية المشتركة لشعب ما. ويؤدي الحفاظ على الذاكرة الجماعية إلى الحفاظ على الهوية الفردية والوطنية، بينما يؤدي غياب الذاكرة الجماعية إلى انهيار المجتمع وتفكك الشعب.
الذاكرة الجماعية هي المحرّك الأساسي للمجتمعات، ولكي نفهم ذكريات شعب ما علينا أن نفهم هويته الوطنية. ومهما كانت الحقيقة قاسية، فإنها الطريق الصحيح للتصالح مع أنفسنا وإعادة التوازن النفسي لمجتمعنا. إذ يؤدي ضعف ذاكرتنا الجماعية إلى عدم فهم العوامل الماضية التي أدّت إلى الأزمات التي نعيشها اليوم، مما يجعل مجتمعنا ضعيفاً وغير قادر على إنقاذ حاضره وبناء مستقبله. من المحزن أن نستبدل ذاكرتنا الجماعية بنسيان جماعي، وأن نعيش بلا ذاكرة وبلا هوية. من العار أن ننسى كيف احتضنت الأهراءات مدينتنا ... واجبنا الآن أن نحتضنها في ذاكرتنا!