أصبح الوصول إلى التقنيات الحديثة في الوقت الحالي مؤشراً رئيسياً على الازدهار والقدرات التنافسية للدول. كما تسهم الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية - أكثر من أي مجال آخر - في تحسين العديد من القطاعات الحيوية كالرعاية الصحية وتوفير التعليم وبناء قطاعات وصناعات جديدة قائمة على المعرفة في مختلف دول العالم.
شهدت الأعوام الماضية العديد من الخلافات بين قطبي التكنولوجيا الحاليين الغربي ممثلاً بالولايات المتحدة والشرقي بقيادة الصين. ويعتبر النزاع السياسي حول أشباه الموصلات من أهم الأمثلة على هذه الخلافات القائمة حالياً.
وعلى الرغم من أننا لا نتعامل مع هذه المنتجات التقنية بشكل مباشر، إلا أن الرقائق الإلكترونية هي المكون الأساسي لشبكات المرافق الحديثة وشبكات النقل وشبكات الجيل الخامس التي سيتم الاعتماد عليها لربط مختلف القطاعات بطريقة لم نشهدها من قبل، وكذلك ربط الإنسان بالآلة والآلة بالآلة.
وتسهم هذه التقنيات في دعم تحقيق أهداف رؤية الدول كرؤية لبنان الاقتصادية 2025 بالاستفادة القصوى من التقنيات الرقمية المتطورة وبناء نظام إيكولوجي تقني مزدهر. ولا شك بأن منع الوصول إلى أشباه الموصلات وتقنيات الجيل الخامس وغيرها من التقنيات الحديثة سيضع مزيداً من العراقيل في وجه التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتحول الرقمي في لبنان.
وفي ظل تزايد الطلب على الرقائق الإلكترونية في القطاعات الرئيسية، طالبت الشركات المتخصصة بأشباه الموصلات من الشركات التقنية التحلي بالصبر حتى تتمكن من تلبية جميع متطلباتها. كما أدى تفشي الجائحة إلى تفاقم المشكلة، حيث تم إيقاف التصنيع بشكل مؤقت في العديد من المناطق فيما تزايد الاعتماد على أجهزة الكمبيوتر وتقنية العمل من المنزل أكثر من أي وقت مضى.
وتعتبر القيود على التجارة الحرة احدى العوامل الأساسية التي أدت إلى نشوء أزمة الرقائق الإلكترونية، لا سيما سياسات الولايات المتحدة تجاه الشركات الصينية تحت ذريعة "الأمن القومي"، حيث أدرجت الحكومة الأمريكية العديد من الشركات الصينية مثل هواوي على القائمة السوداء التي تحظر على الشركات الصينية شراء الرقائق اللازمة لتصنيع الهواتف الذكية وتجهيزات الاتصالات من الموردين الأمريكيين.
وأشارت جمعية SEMI العالمية التي توفر خدمات تصميم الإلكترونيات وسلسلة توريد مواد تصنيع القطع الإلكترونية إلى أن لوائح مراقبة الصادرات في الولايات المتحدة ستضر بصناعة أشباه الموصلات وتعيق سلسلة التوريد. فقد أنفقت هواوي – على سبيل المثال - ما وصل إلى 11 مليار دولار على شراء المكونات من الشركات الأمريكية بما فيها شركات "كوالكوم" و"إنتل" و"مايكرون" من أصل 70 مليار دولار أنفقتها الشركة قبل الحظر في عام 2018، مما أدى إلى خسائر كبيرة للشركات الأمريكية بسبب العقوبات.
وتوقعت مجموعة بوسطن الاستشارية أن تتراجع إيرادات الشركات الأمريكية بنسبة تصل إلى 37% على مدار الأعوام الثلاثة إلى الخمسة القادمة إذا استمرت الإدارة الأمريكية بمنع شركات تصنيع الرقائق من بيع منتجاتها إلى العملاء الصينيين.
لا يقتصر أثر العقوبات الأمريكية على قطاعات مثل الهواتف المحمولة والجيل الخامس فحسب، بل تشمل مجالات أخرى مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والمكونات الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد الرقمي، مما يؤدي بدوره إلى الإضرار بالعديد من القطاعات الأخرى مثل قطاع السيارات الذي شهد العديد من عمليات إغلاق بسبب نقص الرقائق على المستوى العالمي.
وعلى مدار الأعوام الماضية، شهدنا انتقال مراكز إنتاج الرقائق الإلكترونية والابتكارات التقنية من الغرب إلى الشرق بشكل تدريجي. وفي عام 2020، تفوقت الصين على الولايات المتحدة في عدد طلبات براءات الاختراع. كما أنفقت الصين في العام الحالي ما وصل إلى 378 مليار دولار على البحث والتطوير بزيادة قدرها 10%. وحافظ المارد الصيني هواوي على ريادته للشركات التي تملك براءات اختراع على المستوى العالمي للعام الرابع على التوالي. وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية، بذلت هذه الشركة المزيد من الجهود للحفاظ على مكانتها كشركة رائدة في الابتكارات وبراءات الاختراع في مجالات مثل الجيل الخامس، وتسعى إلى تحقيق المزيد من الإنجازات في مجالات جديدة مثل السيارات الذكية.
وما زالت هناك العديد من فرص النمو التي تلوح في الأفق، إذ يتوقع خبراء التكنولوجيا أن يحقق القطاع التقني نمواً يزيد عن ضعف الناتج المحلي الإجمالي على الرغم من تراجع الإنفاق على تقنية المعلومات والاتصالات على المستوى العالمي في العام الماضي بسبب تفشي الجائحة، حيث تستحوذ التقنيات الجديدة على حصة أكبر من السوق.
وتؤكد الاستثمارات الكبيرة التي يشهدها القطاع التقني على أن السبب الحقيقي وراء العقوبات التجارية الغربية على الشركات الصينية هو الآثار الاقتصادية والسياسية وليست المخاوف الحقيقية والعلمية بشأن الأمن السيبراني. هذا النوع من السياسات الخارجية يحد من تبادل المعرفة ويؤدي إلى عزل الجهود الابتكارية بدلاً من تعزيز الإبداع المشترك. كما أنها تضع قيوداً على سلاسل التوريد العالمية والتجارة الحرة، مما يؤدي إلى تقويض مصالح العديد من الدول مثل لبنان التي تعتبر اليوم بأمس الحاجة لدفع عجلة الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي بمساعدة التكنولوجيا.
وفي الوقت الذي يكافح فيه العالم للتعافي من آثار الجائحة، تبرز أهمية التعاون الدولي على تعزيز الابتكار التكنولوجي أكثر من أي وقت مضى. وسيسهم التعاون الدولي في دعم جهود لبنان وغيره من الدول لنشر التقنيات الحديثة بشكل أكثر كفاءة وحرية بما يعود بالنفع على المجتمع بأكمله.
Alain Kareh
[email protected]
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.