تسكنها بيروت كما يسكن في البال حبيب غائب...
بيروت، مرآتها وأغنيتها ورفيقة ذكرياتها، مصدر فخرها، وعبق الحنين إلى العمر الجميل. بيروت الحلوة، بيوتها وأحياؤها وطرقاتها وشرفاتها وقناطرها وحجارتها وحيطانها وشبابيكها وأبوابها وورودها وأشجارها وسماؤها محفورة في قلبها وعيونها. في الرابع من آب، تمّ تفجير بيروت... تحطّم قلبها كما قلب مدينتها.
كيف لمدينة أن تكون حبيبة القلب؟ كيف لمبانٍ وبيوت وشوارع وساحات أن يصبحوا أصدقاء العمر؟
التعلق أو الإرتباط العاطفي هو أحد الدوافع النفسية والإجتماعية الأساسية، وينشأ من العلاقات التي تشبع الحاجات الإنسانية مثل الأمان والمساندة والرفاهية، وكذلك من المشاعر الإيجابية الناتجة عن الترابط بين الناس مثل السعادة والحب. يبدأ التعلق مع الطفل منذ الولادة، وبعلاقته بأمه وأبيه ومن ثمّ المدرسة حتى يصل إلى مرحلة التعلق بالمجتمع. ويختلف التعلق من شخص لآخر، وقد يكون تعلقاً بالأشخاص أو الأماكن، وكلاهما له تأثير كبير على حياة الفرد، ويقومان بدور جوهري في تكوين شخصيته وتشكيل ذكرياته وإدراكه للعالم.
التعلق أو الإرتباط بين الإنسان والمكان هو مفهوم مركزي في علم النفس المعماري وعلم النفس البيئي. ويتأثر هذا التعلق بشخصية الفرد، التي تحدّد ما الذي يجعل المكان "ذو معنى". هذا المعنى يضمّ الأفكار والمشاعر والذكريات والتفسيرات التي يخلقها التعلق بهذا المكان، وهو يعتمد على العلاقة المتبادلة بين الفرد وتجاربه الشخصية، وتفاعلاته الإجتماعية، وخبرات النمو، والجوانب العاطفية والمعرفية، والدلالات الرمزية. وتؤثر الرغبة في الحفاظ على الخصائص المعمارية أو التراثية أو البيئية لمكانٍ ما على قوة الإرتباط به، وذلك من خلال خلق مشاعر الإعتزاز بالنفس واحترام الذات لدى الأفراد، الذين يختبرون إرتباطات أقوى بالأماكن التي يشعرون بالفخر لكونهم جزءاً منها.
ينتج عن الارتباط بالمكان القدرة على بناء الذكريات، حيث يستطيع الفرد التواصل مع أسلافه في الماضي، والشعور بالانتماء إلى مكان محدّد، والنمو الشخصي، وتجربة المشاعر الإيجابية، وتطوير حياة صحية، بحيث يشعر الشخص بالأمان والحرية. ويمكن أن يحدث هذا التعلق بأيّ مكان طبيعي أو مشيّد، مثل غرفة أو بيت أو حيّ أو مدينة أو وطن، ويزداد مع زيادة الوقت الذي يقضيه الفرد فيه، ومع القرب منه والتفاعل معه. وفي هذا الإطار، يعدّ البيت مكان التعلق الأول، إذ يطوّر الأفراد روابط عاطفية قوية بمكان إقامتهم. وهذا ما يشير إلى الأهمية المكانية والنفسية والإجتماعية للبيت، والشعور بالاستمرارية والخصوصية، والإرتباط العاطفي للفرد، وهو يرتبط بشكل وثيق بذكريات الطفولة، كما أنه يشكل أساس الشعور بالهوية.
وتتشكل هذه الهوية من خلال الإرتباط العاطفي للفرد مع المكان، وتربطه بماضيه وحاضره ومستقبله، وتشكل عواطفه واتجاهاته ومعتقداته وقيمه مثل قيم التجذر والإنتماء الوطني، مما يشبع حاجته للتوازن والإستقرار والأمن والهناء الشخصي. هذا الإرتباط المتأصّل لدى اللبنانيين، تزعزع في تلك اللحظة التي انفجرت فيها عاصمتهم الأنيقة المغدورة. اليوم، وبعد مرور سنة على صدمتهم الموجعة، يُلملمون شظايا ارتباطهم بأماكنهم وبيوتهم، ويحتضنون ذاكرتهم الفردية والجماعية، كما نحتضن حبيباً في لحظة وداع ... كما نحتضن وطناً في مرحلة انهيار.
الدكتورة هلغا عمر علاء الدين - قسم علم النفس - جامعة بيروت العربية
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.