انخفض مؤشر الدولار، الذي يقيس قيمة العملة الأميركية مقابل سلة من العملات الرئيسية، الأسبوع الماضي إلى أدنى مستوى له منذ أبريل 2022 وسط تزايد حالة عدم اليقين بشأن رسوم الرئيس دونالد ترامب الجمركية. ومنذ بداية الشهر، ارتفع كل من الين واليورو بأكثر من 4 بالمئة مقابل الدولار.
في هذا السياق، وفي تحليل عميق لـ "الدولار الأميركي" ومستقبله في ظل رئاسة ترامب الثانية، يلفت كبير استراتيجيي الأسواق في "Exness" وائل مكارم، في بداية حديثه في برنامج "بزنس مع لبنى" على "سكاي نيوز عربية"، إلى أن "النقطة الأساسية تتمثل في قضية النمو والمخاوف المتزايدة من احتمال حدوث انكماش اقتصادي في الولايات المتحدة.. وقد لاحظنا أن هذا الحديث لم يقتصر على المراقبين فحسب، بل جاء أيضاً على لسان أكبر البنوك الأميركية، التي رفعت بدورها من تقديرات احتمال حدوث انكماش اقتصادي".
في تقديره، فإنه "من الطبيعي أن يؤدي هذا التوجه إلى ضغوط على الأسواق؛ إذ إن تفاقم الأوضاع الاقتصادية، وظهور مؤشرات مثل ارتفاع معدلات البطالة، سيدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى اتباع سياسة نقدية أكثر تيسيرًا، وهو ما يُضعف الدولار الأميركي".
ويقارن الوضع الراهن بفترة حكم الرئيس دونالد ترامب الأولى، عندما شهد الدولار حركة مماثلة مقابل كل من اليورو والجنيه الإسترليني؛ إذ ارتفع اليورو آنذاك بما يقارب 20 بالمئة، وكذلك الجنيه الإسترليني، في حين تراجع مؤشر الدولار بوتيرة مشابهة.
الدولار كملاذ آمن
ويتحدث مكارم في الوقت نفسه عن "الدولار كملاذ آمن" وما إن كنا أمام لحظة مفصلية تعيد رسم مستقبل العملة الأميركية كملاذ في أوقات الأزمات، قائلاً:
السوق اليوم تتّسم بدرجة عالية من التقلّب، وتتأثر بشكل مباشر بالعوامل المتغيرة والمتعددة.
في الفترة الحالية، هناك الكثير من الأمور المتقلبة، والأداء الذي شهدناه الأسبوع الماضي يُعدّ خير دليل على ذلك. فقد رأينا كيف أن الأسواق انعكست بسرعة كبيرة بمجرد تغيّر قرار واحد فقط، مما يدل على صعوبة تحديد اتجاه واضح وثابت.
إذا ما تأملنا الأنماط العامة، وحركة السوق والزخم المصاحب لها، يمكننا أن نلاحظ أنه في حال استمرار تراجع الدولار وتحقيق اليورو والجنيه الإسترليني مكاسب مقابله، فهناك احتمال لاستمرار هذا الاتجاه.
أما من الناحية الفنية، فنحن عند نقطة محورية على مؤشر الدولار، وفي حال واصل المؤشر تراجعه، فقد نصل إلى مستويات تقارب 95 نقطة.
ودفعت حالة عدم اليقين التي تسود الأسواق حالياً، إلى جانب الخوف المتزايد، المستثمرين إلى اتخاذ قرارات غير تقليدية؛ فعلى عكس ما اعتادت عليه الأسواق في فترات الأزمات "رأينا هذه المرة خروجاً من الأسهم، وتراجعاً في الطلب على الدولار، وحتى السندات الأميركية لم تسلم في مكان ما".
وهذا يعكس – برأي كبير استراتيجيي الأسواق في "Exness"- وجود نوع من المخاطرة الشاملة تجاه الاقتصاد الأميركي، وليس مجرد توجّه تكتيكي أو محدود. ولكن من المهم التأكيد على أن هذا الوضع ليس بالضرورة أن يستمر. فمع تراجع حالة الضبابية، ستعود الأسواق لتُركّز على العوامل الأساسية، وعلى رأسها السياسة النقدية، وكيفية تفاعل الاحتياطي الفيدرالي مع التطورات الاقتصادية.
الرسوم الجمركية
جزء من التوتر الذي تشهده الأسواق يعود إلى طبيعة القرارات المرتبطة بالرسوم الجمركية، فالتعريفات الجمركية ما زالت مرتفعة جداً، حتى بعد الإعلان عن بعض الاستثناءات، ولا تزال هناك زيادات على الواردات الصينية، ما يحمل في طياته دلالات سلبية.
لكن أيضاً بالنظر إلى حركة السوق، فإنها بدأت بالتراجع من القمة التي بلغتها عام 2022، وأيضاً من مستوى متوسط الحركة لمئتي أسبوع، ما يعكس حالة من الحذر لدى المستثمرين.
حتى عندما تنخفض الأسواق، ثمة من يرى في ذلك فرصة للعودة من جديد، وهو ما يجعل الكثيرين يتخذون موقفاً حيادياً بانتظار تطورات أوضح.
صحيح أن الإجراءات التي يتخذها ترامب حالياً تثير قلقاً في الأسواق، لكن هدفه الأساسي ـ كما يبدو ـ هو دعم الاقتصاد وتحفيزه على المدى الطويل، حتى لو كانت التكلفة باهظة في الوقت الراهن.
ما نعيشه حالياً من اضطرابات وتراجعات يُعبّر عن واقع اقتصادي ضبابي، لكنّه أيضاً يمثل بيئة طبيعية في الأسواق التي تشهد تحركات حادة وتراجعات مفاجئة، والتي يراها البعض فرصة للارتداد.
فك الارتباط مع الدولار
ويتطرق مكارم، إلى مسألة "فك الارتباط بالدولار" وما إن كان مجرد أطروحة نظرية، موضحاً أن هذا السيناريو ما زال مستبعداً إلى حدّ كبير، إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم التجارة العالمية وهيمنة الدولار على النظام المالي. فالمسألة ليست فقط في الرغبة بالتحوّل، بل في البنية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي.
إضافة إلى ذلك، فإن عدداً كبيراً من الدول -رغم الانتقادات التي وُجهت للولايات المتحدة - لا تزال حذرة من الدخول في مواجهة مباشرة معها أو تجاوز نظام الدولار، خصوصاً مع استمرار النفوذ السياسي والاقتصادي الأميركي.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل تصريحات سابقة لوزير الخزانة الأميركي، والتي أشار فيها إلى أن واشنطن تسعى لاستعادة الثقة بالدولار بعد الأضرار التي لحقت به نتيجة العقوبات المتكررة، وهي من العوامل التي دفعت بعض الدول للتفكير في تقليص الاعتماد على العملة الأمريكية.
ويضيف: "صحيح أن هناك حديثاً متزايداً عن بدائل محتملة، مثل اليوان الصيني، خاصة في ظل توجه الصين إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب وتقوية موقع عملتها، لكن عملياً، لا تزال هذه البدائل بعيدة عن إمكانية الحلول محل الدولار في المدى القريب".
هل يتعمّد ترامب إضعاف الدولار؟
ورداً على سؤال حول "هل يتعمد الرئيس الأميركي إضعاف الدولار كوسيلة لدعم الصادرات وتحسين الميزان التجاري؟"، يرى مكارم أن ذلك أمراً وارداً جداً، لكنه في الوقت نفسه معقّداً.
ثمة العديد من العوامل المتغيرة في الاقتصاد، وليس من السهل اليوم القول إن مجرد إضعاف الدولار سيحل المشكلة.
في حين قد تحقق نتائج إيجابية في جانب ما، قد تواجه آثاراً سلبية في جانب آخر. لذا فإن تحقيق التوازن بين الإيجابيات والسلبيات يمثل تحدياً حقيقياً أمام إدارة ترامب.
الذهب
وفي سياق التراجعات التي يشهدها الدولار، يعتقد مكارم بأن تلك التداعيات تصب في مصلحة الذهب، مشيراً إلى استمرار مشتريات البنوك المركزية (كعامل داعم لسعر الذهب). ويقول: "نشهد أداءً استثنائياً للذهب لعامين متتاليين.. ويمكن أن يبقى هذا الزخم في ظل استمرار الضبابية التي تشهدها الأسواق".
وبالنسبة للمستويات المستهدفة، يشير إلى أنه "عند الوصول لمستويات جديدة من الصعب تحديد أين ستقف السوق.. وسنتعمل بعض الأدوات التي تشير بعضها إلى مستويات 3340 دولار كمستهدف جيد للوقت الحالي".