بعد النشيد الوطني، تحدث الاستاذ أكرم عربي فقال: "ليس غريباً على هذا المجلس الثقافي الاجتماعي للبقاع الغربي وراشيا أن يلقي الضوء على قضية حساسة للغاية هي على مستوى الوطن والمواطن. إن الودائع المصرفية باتت تَقضُّ مضاجع السواد الأعظم من اللبنانيين، كيف لا، وهي تتعلق بجنى أعمارهم وارزاقهم ومصير فلذات اكبادهم، انها مدخراتهم التي اطمأنوا بإيداعها لدى المصارف على قاعدة "خبي قرشك الأبيض الى يومك الأسود".
في أواخر العام 2019، ولسوء حظ اللبنانيين، تفاقم الوضع المعيشي والاقتصادي وعمت الاحتجاجات والمظاهرات والاحداث وتسارع الانهيار المالي والنقدي في لبنان ولم تتمكن الحكومات من تحقيق أي اصلاح ينقذ الحال. وبخطوة غير مسبوقة قررت الحكومة المجتمعة في بعبدا، عدم تسديد قسط EURO BOND(1.2 مليار $) وذلك قبل يوم واحد من موعد استحقاقه في 9/3/2020 وبدون التنسيق مع الدائنين، وفوراً سارعت وكالات التصنيف العالمية بتصنيف لبنان دولة متخلفة عن السداد، وهذا ما يفقد لبنان القدرة على الاقتراض من الدول والأسواق العالمية ويحول دون استقبال اية تحويلات بالعملة الصعبة من الخارج. وهذا ما يقلق أصحاب الرساميل ويحفّزها الى الخروج من لبنان الى أسواق أكثر أمانا. بدوره اقترح مصرف لبنان على الحكومة العمل فوراً ودون تردد على اصدار قانون Capital Control، لمنع تهريب الودائع وحتى الساعة فان هذا القانون لم يبصر النور.
بالمقابل فان الجهابذة المستشارون مع مدير المالية العام اعتبروا ان لبنان بلد مفلس، وان خطة التعافي الاقتصادي تستوجب شطب الديون المترتبة على الدولة وتحميل مصرف لبنان والمصارف والمودعين أعباء هذه الديون واعتماد Hair cut. استشعر معظم السياسيين وكبار المودعين بالمخاطر على ودائعهم، ومن المعروف ان راس المال جبان، فما كان منهم ان سارعوا الى تهريب أموالهم الى خارج لبنان مستغلين تأخير مجلس النواب عن إقرار قانون Capital Control وقبل تطبيق Hair cut وبذلك خسر الاقتصاد اللبناني كتلة كبيرة من النقد الأجنبي وتقلصت معها سيولة القطاع المصرفي وانعكست سلباً على حسابات المودعين.
من المعروف ايضاً ان موازنات الدولة اللبنانية وعلى مر السنين هي على عجز دائم، وتعمد الدولة الى تمويل نفقاتها بالاعتماد على الاستدانة من المصارف والمؤسسات والافراد، عن طريق اصدار سندات الخزينة، أو عن طريق اصدار سندات اليوروبوند. هذا يعني ان الديون المترتبة على الدولة اللبنانية بمعظمها تعود الى ودائع المواطنين. وهنا تكمن معضلة أخرى، فالدولة لا زالت تصر على عدم تسديد الديون للمصارف وبالتالي الى الأفراد وتحاول شطبها، كما انها لا زالت تحاول ان تقتَصّ مما تبقى من أموال للمودعين لدى المصارف.
علّمتنا التجارب في لبنان، ان كل قضية كبرى يجري طمسها بخلق قضية أكبر منها، وأخشى ما اخشاه ان تتحول قضية توقيف الحاكم السابق في هذا الظرف بالذات الى حرف الحقيقة عن مجراها ليتم اسدال الستار عن قضية كبيرة أخرى، عسى الّا تكون على حسابات المودعين.
هذا غيض من فيض، بالطبع ساترك للمحاضر الخوض في عُباب موضوع الساعة، فالمحاضر يتمتع بخبرة مميزة اكتسبها خلال مسيرته المهنية الطويلة، وهو على اطلاع واسع على الكثير من الحقائق، فهو خير من يحاضر عن مصير الودائع وواقعها وهل ممكن استعادتها او ان استعادتها قد تبخرت وأصبحت ضرب من الوهم والخيال".
ثم تحدَّث الاستاذ بهيج الخطيب فقال: "ما ألتقي بشخصٍ يعرفني ويعرف موقعي المهني إلاّ ويبادر إلى السؤال هل سنستعيد ودائعنا؟. هذه المسألة تشغل بال المودعين وتقضّ مضاجعهم منذ ما يقارب الخمس سنوات، ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم عشيّة يومٍ من تشرين الأول 2019 غير قادرين على الوصول إلى مدخراتهم المودعة في البنوك اللبنانية، وما زالوا يعانون الذل على أبواب المصارف، وهنا تطرح الأسئلة التي لم نلق لها إجابات حتى الآن:
- هل فعلاً سرقت ودائعنا؟ ومن سرقها؟
- هل من أمل باسترجاعها؟ كيف ومتى؟
- من هي الجهة المسؤولة عن الوضع المتردي الذي وصلنا إليه؟
للإجابة على هذه الأسئلة والتساؤلات لا بد من العودة السريعة إلى التراكمات التاريخية للأحداث التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وتشخيص المشكلة والتعرف إلى الجهات التي ساهمت بتعميقها، وتحديد مسؤولية كلٍّ منها، واستكشاف مدى استعدادها لوضع الحلول التي تؤدي إلى ضمان استرداد الودائع، للوصول إلى القناعة الواقعية حول مصيرها.
لقد بات الجميع على يقين راسخ بأن مسؤولية الانهيار المالي تقع على عاتق الطبقة السياسية الحاكمة ومصرف لبنان والمصارف بالتكافل والتضامن. ومن هنا تبدأ الحكاية، حكاية التحالف الجهنمي الذي نشأ بين الميلشيات والمافيات والكارتلات وأطبق على البلد بكل مفاصله منذ اتفاق الطائف".
ثم بدأ بعرضٍ مسهب للتطورات والأحداث التي جرت في البلد منذ اتفاق الطائف، وكيف تعاملت الجهات الآنفة معها، قائلاً بأن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الدولة اللبنانية والطبقة السياسية الحاكمة التي استسهلت الاستدانة بدلاً عن وضع خطط الإصلاح ووقف النزف وإعادة التوازن، وعلى الحكومات التي عمدت إلى تثبيت سعر الصرف لاكتساب رضى الشعب، وباعت الخدمات التي تقدمها للجمهور بأسعارٍ أدنى من سعر التكلفة إسترضاءً للناس ما تسبب بعجزٍ مالي زاد من العبء الذي تحمله الدولة. واعتبر أن سياسات الدولة اللبنانية ومصرف لبنان أتاحت للبنانيين العيش في بحبوحة على حساب الخزينة اللبنانية، وأن عدم سداد مستحقات اليورو بوند عزز النظرة السلبية للبنان وأفقد المستثمرين الثقة بلبنان. وأن مكمن الخطر كان في اعتماد سياسة الفوائد العالية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة بالتنسيق مع مصرف لبنان بغية اجتذاب الودائع لتمويل عجز الموازنات.
ورأى أن أسوأ ما أقدمت عليه الطغمة الفاسدة لكي تبعد الشبهات عنها هو توجيه الأنظار باتجاه مصرف لبنان والمصارف لتبرئة نفسها من هدر الودائع، وتجاوب المواطنين معها. وأن هذه الطغمة سعت إلى إفلاس القطاع المصرفي وإفقار الللبنانيين وتدمير الثقة بمستقبل البلد، وقد يكون ذلك بالتواطؤ مع جهاتٍ خارجية.
ورأى أن المسؤولية الثانية تقع على عاتق مصرف لبنان الذي انتهج بتوجيهاتٍ سياسيّة سياسة تثبيت سعر صرف الليرة على مدى 25 سنة على حساب احتياطات ودائع المصارف، وأن هذه السياسة ساهمت في توسيع الفجوة المالية في ظل غياب الرؤية الاصلاحية عند المسؤولين وإهدار الودائع.
واعتبر أن أهم وأخطر مسؤولية تقع على عاتق المصارف لعدم التزامها بإدارة المخاطر المصرفية وتجاوزت الحدود المسموح بها لإقراض الدولة، وخضوعها لإغراءات مصرف لبنان بتوظيف ودائع لديه بفوائد مرتفعة.
وخلص في النتيجة إلى أن الأطراف الثلاثة شركاء في جريمة سرقة وهدر أموال المودعين وبالتالي عليهم أن يتحملوا بالتكافل والتضامن وبالتراتبية الفجوة المالية متحدِّثاً عن بعض الخطوات والحلول الواجب القيام بها للنهوض بالبلد مما هو فيه.
وفي الختام كان ثمّة مداخلاتٍ من الحضور، وفي طليعتها مداخلة قيّمة من الوزير والنائب السابق جمال الجراح.