كثيراً ما تثار تساؤلات حول الهدف من أي نشاط اقتصادي بشكل عام، هل هو تحقيق الصالح العام، أم لمالك المؤسسة أو المشروع، أم يجب أن يكون الهدف هو الحرص على الصالح العام والخاص معاً، دون أن ينفصلا؟
ومن خلال كتابه "الاقتصاد من أجل الصالح العام" يناقش "جان تيرول"، الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، تطبيق نظرية الألعاب على بعض من القضايا الاقتصادية الأكثر إلحاحاً في عالمنا اليوم، بدءاً من الرقابة والتنظيم، مروراً بالاقتصادات الحديثة، وصولاً إلى التمويل وأزماته.
ويرى تيرول أن الضرائب لم تعد وحدها الطريقة المثلى من أجل الوصول إلى موازنة بين الصالح العام والخاص، حيث تساوي بين مشروع يقوم بإعادة تدوير القمامة مثلًا وآخر ينتج عن أعماله تلويث للجو، وتفرض على كليهما نفس نسبة الضرائب.
وبناء على ذلك يجب فرض ضرائب إضافية وفقاً لطبيعة النشاط وما إذا كان ملوثاً للبيئة أم العكس، حيث إن الحكومات الآن تنفق أموالًا طائلة للحفاظ على البيئة فلا يجب المساواة بين من يلوثها أو يتجنب تلويثها بل ومن يحافظ عليها.
والاقتصاد المثالي يقوم على قاعدة "الكل رابح" في نظرية الألعاب، بمعنى أن النظام الرأسمالي ليس سيئاً بالضرورة إلا إذا استدعى تحقيق كل شخص أو مؤسسة لمصلحتها دونما النظر للمصحلة العامة، وهنا يصبح تدخل الدولة حيوياً بحيث يرتبط الصالح العام بالخاص ويصبح الاثنان متصلين.
ولذلك أيضاً يجب السيطرة على مفهوم الدولة الرأسمالية الحديثة، والتي يقتصر دورها على الحماية والتأمين والتشريع، دون التدخل المباشر في النشاط الاقتصادي بعيداً عن التشريعات وبعض السياسات الاقتصادية العامة، وذلك لفرض مساهمة أكثر فاعلية من القطاع الخاص في الخطط العامة.
فعلى سبيل المثال، لولا التدخل الرسمي من جانب حكومات أوروبية، ولا سيما ألمانيا، لم يكن باستطاعة تكنولوجيا الطاقة النظيفة أن تحدث القفزات الكبيرة التي حققتها خلال الأعوام الأخيرة بإقرار برامج واضحة -بالتعاون مع القطاع الخاص- لتشجيع هذا النوع من الاستثمارات.
فشركة مثل سيمنز أصبحت تركز جهودها حالياً على تطوير كافة صور إنتاج الطاقة المتجددة، وبدأ الأمر بإصرار الحكومة الألمانية على إقامة محطات توليد كهرباء بالطاقة النظيفة مما استدعى من الشركة الشهيرة التوسع في خدماتها في هذا المجال.
وكذلك أيضاً يجب إعادة التفكير في دور المؤسسات التمويلية، فعندما تكون البنوك التجارية من أكثر المؤسسات ربحية، بنسب تصل إلى 30% في المتوسط خلال بعض السنوات الأخيرة فإن هذا لا يخدم الصالح العام، على الرغم من أهمية دور المؤسسات التمويلية بشكل عام.
فهذا الأمر يعني أنهم في واقع الأمر يحصدون جزءاً كبيراً من أرباح المنتجين، دون المساهمة بنشاط منتج في العملية الإنتاجية في أغلب الأحيان، والاكتفاء بدور الوسيط بين المدين والدائن، وهنا ليس "ربح- ربح" ولكن "ربح- خسارة" وهي ليست صورة عادلة للنشاط الاقتصادي.
وبناء على ذلك يؤيد تيرول الحد من دور البنوك التجارية في النشاط الاقتصادي لحساب البنوك الاستثمارية التي تقوم باستثمار أموال مودعيها بنفسها بحيث تختفي البنوك كحلقة وسيطة إلا في أنشطة محدودة للغاية من بينها الإقراض الفردي.
ويمكن للمؤسسات التمويلية هنا الدخول كشركاء، سواء من خلال شراء الأسهم في شركات المساهمة أو الحصص في الشركات المحدودة أو الفردية، بدلاً من العمل كوسطاء، لا سيما أن دورهم هذا والحصول على ضمانات غير ملائمة للتوسع في الأقراض تسبب في الأزمة المالية قبل عقد تقريبًا.
ويرى تيرول في ختام كتابه أن الوصول إلى "اقتصاد الصالح العام" يبقى في كافة الأحوال صعباً، لأنه يتطلب تضافر جهود حكومية (تنفيذية) وتشريعية وأهلية (شعبية)، غير أنه ممكن شريطة توافر الإرادة لدى الأطراف جميعاً متى علموا أن في هذا فائدة مؤكدة للجميع.
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.