بعد الإنتفاضة الوطنية العارمة والعابرة للطوائف والمذاهب والمناطق التي اندلعت في 17 تشرين الأول 2019، والتي أطاحت بحكومة الرئيس سعد الحريري، عاودت المصارف العاملة في لبنان أعمالها وسط أجواء من القلق والخوف من تدهور سعر صرف الليرة وتفاقم موجة السحوبات من المصارف.
إزاء هذه المخاوف استنفرت الجهات المعنية في البلد لدراسة كافة الإحتمالات ووضع السيناريوهات الممكنة لمواجهة هذه المخاوف وكيفية التعامل معها والتغلب على تداعياتها.
ومما لا شك فيه أن حالة الخوف التي تعتري اللبنانيين، وقلقهم من عدم قدرة الجهاز المصرفي اللبناني على تلبية طلبات السحب أو التحويل الى الخارج، مردّها ما تعرّض له لبنان خلال فترة الحرب الأهلية 1975 – 1990 وكذلك تجارب الدول التي عانت من الحروب وعدم الإستقرار والفساد...
في المطلق إن هذه الحالة لها ما يبررها ولكن ليس من الضرورة أن تنطبق على لبنان، حيث أن بلدنا ينفرد بخصوصية تجعل عملتنا الوطنية في منأى عن إمكانية التأثر بتداعيات الوضع القائم.
وفي رأيي ان هذه الخصوصية تنبع من عدة عناصر:
-
نسبة الدولرة:
ان نسبة الدولرة في الودائع قاربت 75%، وكنا قد شهدنا هذه النسبة في ثمانينات القرن الماضي وصلت الى 92% في أواخر الثمانينات، وبذلك يبلغ حجم الودائع لدى المصارف بالعملة اللبنانية حوالي 66 ألف مليار ل.ل أي ما يوازي 44 مليار دولار. ولكن هذه الكتلة النقدية ليست كلها قابلة للتحويل الى الدولار، حيث يجب استبعاد المبالغ التالية منها:
- الإحتياطي الإلزامي على الودائع لدى الجهاز المصرفي
- شهادات الإيداع والودائع لأجل من المصارف لدى مصرف لبنان
- ودائع الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وودائع المؤسسة الوطنية لضمان الودائع لدى المصارف
- الأموال الجاهزة لدى المصارف لمتطلبات السيولة.
وتقدر هذه البنود بما يتجاوز 40 ألف مليار ليرة لبنانية أي ما يناهز الـ 26 مليار دولار.
وعليه، فإن ما يتبقى من ودائع قابلة للتحويل الى الدولار لا يتجاوز 25 ألف مليار ليرة لبنانية أي ما يوازي 16 مليار دولار بحد أقصى.
في المقابل يتجاوز حجم الإحتياطات المتوفرة لدى مصرف لبنان والقابلة للإستعمال الـ 32 مليار دولار، وهو كاف لامتصاص كل ما يمكن تحويله من الودائع بالعملة اللبنانية الى الدولار. هذا دون الأخذ بالإعتبار أن نسبة لا يستهان بها من الودائع المحررة بالليرة مرتبطة بآجال محددة قد تصل الى سنة أو سنتين، الأمر الذي يخفض حجم الكتلة النقدية الساخنة.
-
الفوارق في العوائد على المدّخرات ما بين لبنان والخارج اللتي تشكل عنصر جذب للودائع.
-
سياسة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف الحكيمة تشكل خط الدفاع الأول عن العملة الوطنية وأثرها على اقتصاد البلد ومستوى التضخم ومدخرات اللبنانيين وخاصة المتقاعدين منهم وذوي الدخل المحدود والمتوسط. ولنا في مرحلة 1980 – 1992 خير دليل على صحة ما أقول عندما كان سعر صرف الدولار يتحرك صعوداً أم نزولاً بنسب قد تصل الى 25% في اليوم الواحد.
-
تراجع فاتورة الإستيراد بسبب الوضع السياسي والإقتصادي من جهة وتقييد المصارف لتسهيلاتها الإئتمانية للزبائن من جهة أخرى كما جرى مؤخراً مما سوف يؤدي الى تراجع العجز في الميزان التجاري وبالتالي في ميزان المدفوعات.
-
الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان مؤخراً والتي كان ابرزها التعميم رقم 532 الذي صدر مؤخراً والذي يفرض زيادة الأموال الخاصة للمصارف خلال العام القادم بنسبة 20%. هذا فضلاً عن العديد من الإجراءات التي تساهم في الإستقرار النقدي والتي قد يلجأ إليها عندما تدعو الحاجة، ولا داعي للإفصاح عنها الآن.
-
السياسة الواقعية والمتزنة التي تمارسها مصارفنا اللبنانية بإدارة سليمة لجمعية المصارف وبتنسيق دقيق وفعال مع حاكم مصرف لبنان.
-
شعور مختلف فئات الطبقة السياسية الحاكمة بخطورة الوضع الإقتصادي:
وهذا واضح وجلي حيث أن الجميع يعترف بخطورة هذا الوضع وبضرورة العمل على الخروج منه، ولكن الخلاف يتبلور حول طريقة مقاربته والسياسات الواجب اتباعها للانتقال الى لبنان الذي نريد. وباعتقادي ان الجميع يشعر بالخطر، ولا بد من الوصول الى مقاربات ترضي معظم الأطراف وتؤدي الى الإنتقال الى وضع أفضل.
كل ذلك ساهم في تهدئة النفوس، والحد من موجة الهروب من الليرة أو حتى من الجهاز المصرفي اللبناني، ولا نتوقع أن تتجاوز كثيراً تلك الموجة الحدود التي وصلت اليها حتى الآن، اللهم إلا إذا فقد الرشد من عقول سياسيينا وغلبوا مصالحهم الخاصة على الصالح العام وأصروا على تنفيذ مآربهم او مآرب من يوجههم من الخارج على حساب مصلحة الشعب اللبناني.
فلا بد من تغليب لغة العقل والمصلحة العامة على المصالح الشخصية والإسراع في تشكيل حكومة حيادية من أصحاب الإختصاص والمشهود بكفاءتهم ونظافة كفهم حتى نتمكن من اجتياز هذه المرحلة الصعبة والعودة بلبنان الى الخط السيلم ضناً بهذا الشعب وحفاظاً على لقمة عيش اللبنانيين وكرامتهم.
بقلم بهيج الخطيب
مستشار مصرفي
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.