كُتِبَ على لبنان أن يعيش يوما بيوم وساعة بساعة. يغيب التخطيط للغد ولما بعده فننشغل بحلحلة العقد والمشاكل الآنية وننسى المستقبل. هل هو قصر نظر نعاني منه منذ عقود أم أن هنالك من أراد لنا أن ننهمك بتعقيدات الحاضر فنعمل على ما هو طارئ ونمضي عمرنا في طوارئ الأزمات وفي العناية الفائقة؟
في هذا المقال المعنون "المصارف بين الحقيقة والفرضيات" في جزئه الثاني، سأتناول المواضيع التالية:
- سيولة المصارف.
- إمكانية إعادة رسملة المصارف.
- السرية المصرفية وتداعياتها.
الفرضية الأولى: هل لدى المصارف السيولة الكافية لتسديد الودائع وهي تمتنع عن ذلك بقرار منها؟
الحقيقة: تنقسم توظيفات المصارف بغالبيتها الكبرى إلى أربعة فئات:
1- ودائع المصارف لدى مصرف لبنان وقد بلغت ما يقارب 86.6 مليار دولار في منتصف شهر شباط بحسب ميزانية مصرف لبنان.
2- ودائع المصارف لدى المصارف المراسلة وقد بلغت رصيداً سلبياً وقدره (204) مليون دولار في 31/01/2023. إذ أن التزامات المصارف اللبنانية تجاه المصارف المراسلة بلغت 4،369 مليون دولار، فيما ودائعها بلغت 4،165 مليون دولار.
3- محفظة اليورو بوند والتي أعلنت الدولة عن التوقف عن سدادها منذ آذار 2020 وقد أصبحت قيمتها بعد تنزيل المؤونات 2.900 مليار دولار.
4- تسليفات المصارف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية وقد تدنت إلى 9.785 مليار دولار في 31/01/2023.
هذه الأرقام تبين بما لا يقبل الشك بأن لا سيولة لدى المصارف، أكان من ناحية ودائعها بالدولار المحلي لدى مصرف لبنان وهي غير قابلة للسحب نقدا أو التحويل إلى الخارج، أم من ناحية أرصدتها السلبية لدى المصارف الأجنبية أو لناحية محفظتها من اليورو بوند الغير قابلة للتسييل إلا بما يناهز 6% من أصل السعر.
أما من ناحية القروض للقطاع الخاص فللأسف يقوم المدينون بتسديدها إما بالليرة أو بالشيكات المصرفية التي تعود لتودع حكما لدى المصرف المركزي كخيار وحيد فتلقى مصير باقي الودائع لديه. لقد أدت هذه الآلية الخاطئة والمفتعلة من قبل الدولة إلى سداد ما يقارب 28 مليار دولار من القروض منذ بدء الأزمة وحتى اليوم، خسرها المودع من السيولة التي كان يفترض أن تؤول إليه. من هنا يصح القول إن أغنياء اليوم هم دائنو الأمس. 28 مليار دولار ربحها الدائنون على حساب المودعين بإهمال من الدولة، حتى لا نقول عن سابق تصور وتصميم.
الفرضية الثانية:
يعتقد البعض أن الحل يكمن في أن يقوم مساهمو المصارف بإعادة رسملة مصارفهم من أموالهم الخاصة لإعادة الانتظام إلى القطاع.
الحقيقة:
لقد ارتبط اسم المصارف في لبنان بأسماء رؤساء مجالس إدارتها لدرجة ظن الكثيرون أنهم من يملكون المصرف. قد يفاجأ البعض أن ثمة رؤساء مجالس إدارة لا يملكون أكثر من 10% من مصارفهم، فيما تتوزع بقية المساهمات على مساهمين محليين وأجانب أو على صغار المساهمين الذين اشتروا أسهمهم عبر بورصة بيروت. وهذا يجعل مالكي المصارف موزعين إلى أربعة فئات:
- رئيس وأعضاء مجلس الإدارة، هؤلاء قد لا يملكون وحدهم ما يكفي لإعادة رسملة مصارفهم.
- المساهمون الكبار اللبنانيون والأجانب، ومعظمهم كان قد أودع الجزء الأكبر من أمواله في المصرف، فتراه اليوم قد خسر أمواله وهو ليس مستعداً أن يجازف من جديد بالاستثمار في مصارف من المحتمل أن تذهب أرباحها في السنوات القادمة إلى صندوق استعادة الودائع.
- صغار المساهمين الذين اشتروا أسهمهم عبر بورصة بيروت والذين يشكلون نسبة مهمة من رأسمال المصرف. هؤلاء تآكلت مساهماتهم مع الهبوط الحاد في أسعار أسهم المصارف وقد يكون من الصعب إقناعهم بالاستثمار من جديد في القطاع المصرفي اللبناني في الوقت الحالي.
من هذا المنطلق قد يكون مبدأ إعادة رسملة المصارف مادة جاذبة لمن لا يدرك حيثياتها، إلا أن الواقع يظهر بأن على الجهات التشريعية والرقابية دراسة الإمكانات المتاحة لكل مصرف على حدة وهذا ما يُتَوَقع أن تقوم به لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا، ضمن مشروع إعادة الهيكلة.
الفرضية الثالثة:
يعتقد البعض عن خطأ أن كافة المصارف تتمسك بالسرية المصرفية لإخفاء تحاويلها إلى الخارج.
الحقيقة:
منذ صدور القانون الجديد للسرية المصرفية بتاريخ 3 تشرين الثاني 2022، تواجه المصارف مطالبات برفع السرية المصرفية عن فئات عدة من الحسابات، مرّة بحكم وظيفة صاحب الحساب أو بشبهة تحويل أموال إلى الخارج لمصرفيين وسياسيين وإذا ما تعذر الولوج إلى حسابات أخرى تستعمل شبهة تبييض الأموال كذريعة لكشف السرية عنها. بعد كل هذا نتساءل، هل إن مضار السرية المصرفية أصبحت تفوق حسناتها. أوليس الأجدى رفع السرية المصرفية عن الجميع في حال كهذه وليظهر الخيط الأبيض من الأسود وتنتفي الانتقائية ليُبرأ الصالحون ويُجَرّم المرتكبون؟ وذلك تماشيا مع ما ورد في بيان جمعية مصارف لبنان تاريخ 6/2/2023 ما حرفتيه:
" إن المصارف تطالب الدولة اللبنانية بإقرار قانون معجل مكرر يلغي بشكل كامل وبمفعول رجعي السرية المصرفية، ويسمح للمصارف بمنح المعلومات المصرفية على جميع حسابات زبائنها وفي طليعتهم القيمين على إدارتها ومساهميها وسواهم، وذلك منذ تاريخ فتحها، إلى من يشاء من السلطات القضائية وغيرها، فتنتهي مهزلة الاتهامات والشكوك التي تساق بحقها وبحق مساهميها".
يمكنكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا.