تضمّنت الندوة ثلاث جلسات بإدارة الأستاذ المساعد في كلية سليمان عليان لإدارة الأعمال في مجال ريادة الأعمال والدراسات التنظيمية، الدكتور عمرو الكبّي، الذي أشار إلى كون "الاكتشافات العلمية التطبيقية أو ما يعرف بالتكنولوجيا مرافقة بل مشكلة للحضارة الإنسانية.
فقد عنونت عصور الحضارة الإنسانية باسم التكنولوجيا المميزة لذلك الزمن. فمع اكتشاف النار والتحكم بها انتقل الإنسان من أحد أضعف مخلوقات بيئته إلى الصياد الأول والأخطر. ثم مع اكتشاف تكنولوجيا الزراعة انطلق العصر الجديد الذي سمح للإنسان بالاستيطان وبناء ممالك ثم إمبراطوريات. عندها كان اصحاب النفوذ والثروات في ذلك العصر الزراعي هم ملاك الأراضي الخصبة. تنافست المالك والإمبراطوريات الإقطاعية عليها. واستمر ذلك النموذج الاجتماعي الاقتصادي السياسي حتى اكتشاف المحرك البخاري. عندها انطلقت ما عرف بالثورة الصناعية والعصر الصناعي. ورافق ذلك نموذج سياسي جديد وانطلق مفهوم الدولة الوطنية. وظهر نموذج اقتصادي جديد أو اقتصاد السوق، فاصبح أصحاب النفوذ هم الصناعيين والمصرفيين ومنقبي الموارد الأولية. فانقسم المجتمع بأكثره إلى طبقة أرباب العمل وطبقة العمال، ما شكل قطبي النظريات الاقتصادية التي سادت حتى يومنا هذا: اليمين الرأسمالي واليسار العمالي." واعتبر الكبّي أنّ "الانتقال من العصر الزراعي للعصر الصناعي لم يكن سلسًا، ففي أقل من ١٠٠ عام تحولت القوى العاملة في العالم من ٨٠٪ او اكثر عاملين بالزراعة إلى ٢٠٪ أو أقل من العاملين بالزراعة. رافق ذلك التحول الكبير الكثير من الحروب الاستعمارية والعالمية المدمرة والمآسي والإبادات التي مازلنا نعاني من تداعياتها إلى يومنا هذا. كل تلك الاحداث أطلقها اختراع المحرك البخاري. أما اليوم فالعالم يواجه خمسة تكنولوجيات تفوق بقدرتها التغييرية قدرة تكنولوجيا المحرك وهي: تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، وسلسلة الكتل، والحواسيب الكمومية. لكل منها لديه قدرة اضطرارية تفوق قدرة المحرك البخاري. بل بالمقارنة فقد أخذت الثورة الصناعية نحو ١٠٠ عام حتى انتشرت حول العالم ولكن الثورة الرقمية تنتشر في غضون أشهر وفي كل أنحاء العالم. لذلك وجب علينا طرح السؤال اين مستقبل لبنان بظل هذه المتغيرات؟"
في الجلسة الأولى تحدثت المتخصصة في المالية العامة والقانون الضريبي والأستاذة المساعدة المحاضرة في الموازنة العامة والقانون الضريبي وقانون الإجراءات الضريبية والمنازعات الضريبية والمالية والقانون الدولي لحقوق الإنسان، الدكتورة غادة أيوب، التي أشارت إلى أنه "بمجرد الحديث عن الاقتصاد الرقمي والمعرفي بتوجب علينا بداية التأكد من توفر عدة شروط تجعله اقتصادًا رقميًّا فاعلًا ومستقرًّا، ومنها سن القوانين والتشريعات اللازمة، وتوفير البنى التحتية والدعامات اللازمة لنموّه وازدهاره، ووجود بيئة بشرية متفاعلة وفاعلة إلى جانب التحول الرقمي في إدارات الدولة ومؤسساتها، وتفعيل الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في هذا المجال.
لكن وللأسف في لبنان وُضعت إستراتيجيات عدة للسياسات العامة التي تتعلق بالتحول الرقمي ولكنها تتغير تبعًا لتغير الحكومات ما يعني غياب التخطيط القريب والبعيد المدى.
مع العلم أن لبنان مهد الطريق بخطوات عدة تسهم في المضي قدمًا نحو الاقتصاد الرقمي كالاهتمام بالتحول الرقمي الذي يرعاه القانون مثل قانون البيانات الشخصية والمعاملات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني، ومن شأن هذا الأمر أن يؤمن بيئة حاضنة للاقتصاد الرقمي لكنه ليس كافيًا."
ثم تحدّثت الأستاذة المحاضرة في كلية الحقوق في الجامعية اللبنانية، والخبيرة في مجال الأبحاث القانونية المصرفية والمالية، الدكتورة سابين الكك، في الجلسة الثانية تحت عنوان "إعادة تعريف القطاع المصرفي في لبنان"، فأكّدت "أنّ الجانب المشرق للأزمة الحالية قد يكون في أنها كشفت النقاب، وعلى مرأى العالم أجمع، عن الاختلالات العميقة في النظامين المالي والمصرفي في لبنان. هذا النظام الذي قضى مئويته الأولى "يستر ويتستر" رافعًا راية السرية المصرفية... عقيدة وطنية، غارقًا بشعار حيادٍ وهمي... أحيا على مدى قرن طوائف منغمسة إقليميًا حتى النهم وكيانات سياسية تابعة دوليًا حدّ الذوبان." ورأت الكك أنّ "تجسيد الاتجاهات المستقبليةً لهذا القطاع يعتمد على الإجراءات التي ستتخذ لتذليل التشوهات المزمنة التي يعاني منها."
وقدمت الكك نبذة سريعة عن الصعوبات الأساسية التي تواجه تطوير قطاع مصرفي مستدام مع العلم أن الأدَّلة تتزايد يوما بعد يوم على أن المنظومة المصرفية لم تعترف حتى تاريخه بعواقب ممارساتها وانحرافاتها التي أدت بنا إلى ما أدت إليه." فاعتبرت أن "تشوّهات القطاع المصرفي اللبناني تكمن في انهيار النظام الحالي، وتبديد الثروة الوطنية، وفقدان الميزة التنافسية. ولأن طريقة العمل المألوفة لم تعد خيارًا ممكنًا، فإن قطاع المصارف في لبنان على مفترق طرق تاريخّي ولابّد من تغيير مساره لذلك، نحن بأمس الحاجة إلى بوصلة جديدة ما يعني اعتماد مقاييس الأهلية الكمية والكفاءة النوعية بمعايير دولية معتمدة ومصدقة وليس مظاهر التضليل المتعمد مثل مقياس حجم الودائع الذي هو مقياس سيّئ لمتانة القطاع المصرفي، وإلى مؤسسات مصرفية بنسخة معَّدلة لأنّ المؤسسات المصرفية التي تقوم على تعظيم الربح غير المشروع أو الربح المفرط الممزوج بمخاطر غير مسبوقة هي مؤسسات دون المستوى الأمثل لقطاع مصرفي مزدهر، وإلى نموذج نموّ جديد مستقر لا يلتحق بالمخاطر السيادية بل يستقل عنها، ومزدهر لا يعتمد على رافعة مالية هشة، ومنصف لا يتسبب في تعميق الفوارق الاجتماعية."
وعن التحديات الخارجية المؤثرة في مستقبل القطاع المالي في لبنان فقد لخّصتها الكك "بالتغير المناخي والتكنولوجيا المالية والضغط الاجتماعي. وفي ظل فجوة الاستثمار في الطاقة النظيفة يسعى الاهتمام الدولي وبالإجماع على ضرورة العمل للاستثمار في إنتاج الطاقة المتجددة وتخزينها نقلا وتحسين كفاءتها من خلال رفع مستويات التمويل في هذا الاتجاه."
أما الأستاذ في الجامعة الأميركية المتخصّص بالاقتصاد الرقمي والمعرفي، والخبير الاقتصادي والإستراتيجي في الأسواق المالية، الدكتور جهاد حكيم، فتحدّث في الجلسة الثالثة مشدّدًا على أن "وضعنا في لبنان جيّد في ما يتعلق بموضوع الاقتصاد الرقمي بفضل الجيل الشابّ، فقد لعب الشبان اللبنانيون من خلال الاقتصاد الرقمي دور الرافعة للاقتصاد الوطني، سواء من خلال التحويلات المالية أم من خلال إرسال أعمال إلى لبنان. فلدى لبنان الكثير من الكفاءات بالاقتصاد المعرفي، والرواتب هي معقولة وجيدة بالنسبة للمقيمين في لبنان، وبالمقابل هي مقبولة بالنسبة للشركات المشغلة." وأمل حكيم في "أن يصبح لبنان محورًا رقميًّا، لكنه للأسف يسير بالعكس بسبب توسع الاقتصاد النقدي. لذا نحن بحاجة لوضع إستراتيجية للتحول الرقمي مترافقة مع الحكومة الإلكترونية."