يخال للمشاهد الحصيف ولأول وهلة حينما يسمع ويرى فورة "الجمعة السوداء" في السوق اللبنانية، أنها إحدى الآليات المنشطة للإقتصاد السلعي المحلي.
ولا تراجع عن القول، من أن تطبيق آلية أو نموذج "الجمعة السوداء" إنما هي إحدى المحركات الذكية للدورات الإقتصادية، كما وأنها من السياسات التسويقية المشروعة بإمتياز، لها أهدافها وغاياتها الإستثمارية خاصة، إنما عقدها ليس في أي زمانٍ وبأي مكان.
وفي التتبّع التاريخي لهذا النموذج، حيث يعود تطبيق آلية "الجمعة السوداء" وفي أوليات ظهورها إلى شهر أيلول (سبتمبر) من العام 1869 وتحديدًا خلال موجة الأزمة الإقتصادية التي تعرضت لها الأسواق الإستهلاكية الأميركية حينذاك، والتي أدّت إلى كسادٍ بضائعي، كان له شديد الأثر على قطاع التجزئة الأميركية، ما أفضى إلى إبتكار وإتّباع هذه الآلية التسويقية المرِنة، والغاية منها الحدّ من ظاهرتيْ: الأولى الركود الإقتصادي، والثانية التغيّر في مستوى الأسعار (التضخم)، عبر التوسّع في مروحة التخفيضات السعرية والتي وصلت لحدود 90 بالمئة.
أما وفي مسألة تسميتها "Black Friday"، فإنها تعود إلى ستينيات القرن العشرين حيث أطلقتها الشرطة الأميركية في مدينة فيلادلفيا، حينما تعرّضت المدينة آنذاك إلى إزدحام مروري خانق ناتج عن خروج الآلاف من المستهلكين للتسوّق، لتتشكّل بهم ومعهم طوابير خانقة في المحال التجارية وعلى أبوابها، وما رافق ذلك من فوضى عارمة أزعجت قدرة الشرطة في عملية تنظيمها لحركة المرور، ما حدا بإطلاقها عفويًا لهذه التسمية.
ويمكن القول، إن سوق "Black Friday" هو نموذج تسويقي في المنظور الإقتصادي، والذي لا يقتصر على السوق الأميركة فقط، بل يتاح تطبيقها منهجيًا على أسواقٍ إستهلاكية أخرى كأسواق النرويج والمملكة المتحدة ورومانيا وفرنسا وغيرها من الأسواق... . فمن خلال هذه السوق يستطيع المستهلكون من الحصول على ما يشبع رغباتهم من منتجاتٍ وسلعٍ وبأسعارٍ مخفّضة تصل إلى حد "الأسعار المحروقة" "Scorched Prices".
ولا مندوحة من القول، أن التسمية "القاتمة اللون" لهذه السوق إنما تحمل في طياتها تعبيرًا تحفيزيًا له وقعه المعنوي النفسي على المستهلكين من جهة، كما وأثره التجاري على التجاريين من جهة أخرى في إظهار التجاريين بمظهر المظلومية.
ولا نكشف سرًّا عن أن هذا اليوم التسويقي إنما يتحضّر له التجّار أثناء وخلال سنتهم المالية التي تسبق هذا اليوم، وبدليل أنه يأتي مع إقتراب نهاية السنة المالية - في العادة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، حينما تبدأ ملامح نتائج السنة المالية تظهر في ميزانية التجّار، وما قد تحمله نتائج أعمالهم من ربحية، خصوصًا في تحديد هامش الربح التجاري القائم GPM. فقد يعمد التجّار إلى إحتساب نسبة معيّنة من هذا الهامش الربحي القائم، يضحّون بها مقابل عملية تصريف الفائض من مخزوناتهم السلعية، والتي تشير إلى أنها ستُمسي بضائع راكدة فيما بعد. فيصار إلى تصريفها عبر خفض أسعار بيعها والتي قد تصل في بعضها إلى حدود تكلفتها، مما يُقبل عليها المستهلكون الذين بدورهم يجدون فيها متّسع ومتنفّس لإشباع رغباتهم من الحاجات تلك. وبحسبنا، في هذا تتلاقى مصلحة كل من التجّار في يومٍ يعتبرونه "أسودًا" ضمناً، في حين يعتبره المستهلكون "أبيض" علنًا.
أما وعلى صعيد السوق الإستهلاكية اللبنانية، وبحسب المنظور أنها تتكشّف عن لَعِبٍ على وتر مشاعر المستهلكين اللبنانيين، كي يجوز وصفه ب "شم ولا تذوق" أو "أنظر ولا تلمس". فلم يشهد يوم السوق هذا التخفيضات المنتظرة والتي تعدّ أساس تكوّنه، وبما يدعم ما ذُكر أعلاه، ليتطابق مع النسختين سواء البريطانية أو الأميركية (بمعزل عن رتابة الأولى وفوضوية الثانية) بأن تراوحت التخفيضات فيهما ما بين 50 و 90 بالمئة. فنخلص إلى التساؤل التالي:
هل ما شهدته الأسواق اللبنانية اليوم هو Black Friday وبما تعنيه من الناحية العلمية في التسويق، أم هي Black Market؟
بالفعل إنها Black Friday Market إنسحبت إنسيابيًا على نفسية المستهلك اللبناني، تكبّد خلال هذا اليوم مشقة قطع المسافات وتحمّل صعوبة الإزدحامات المرورية، ناهيك عن تكبّده تكلفة مواقف السيارات وإستهلاكها ووقودها.. وبالتالي ليأتي توقيته في النصف الثاني من الشهر وقبل ختامه، وما تشكّله هذه الفترة بمأزوميتها من إنحلال القوّة الإستهلاكية نتيجة ضعف القدرة المالية، ليُفاجأ هذا المستهلك بتخفيضات محدودة، لم تتجاوز نسبتها 20 إلى 40 بالمئة وعلى بعض السلع المنوي التخلص منها فقط، وهي التي قد يمكّنه من الإستحصال عليها في الأيام العادية، فيما الترويج لسلعٍ جديدة منوي إدخالها إلى السوق في السنة المالية المقبلة، بحيث لم تطلها التخفيضات بتاتًا. ومن ناحية مقابلة، ما هو مردود هذا اليوم على الخزينة العامة والعائدات الضريبية منها؟
بتقديرنا كما البعض، وليس من باب العرض النقدي، على الرغم من قناعتنا ومن الوجهة الإستثمارية بهذا الأسلوب الترويجي في عِلميّ الإقتصاد والإستثمار، أن هذه الخطوة لم تأتِ وعلى دراسة تكاملية، وإنما أتت على عجالة.
ومن بابٍ آخر وفي تساؤلٍ قد يكون سيوإقتصادي يدور في الأذهان:
هل هذا إستنساخ للتطبيق الغربي؟ ما يفضي إلى التكهّن من أنها إحدى الحِيَل العولمية الغربية المدخلة عمدًا على الإقتصاد؟!
ما يقع في وعينا الكلّي، أنها إحدى إبداعات الرأسمالية الفوضوية!!
عجبًا!! ليس هكذا تُحرّك دورة الإقتصاد المحلي.
د. وليد أبو خير(بتصرف)
خبير في قانون المحاسبة لدى المحاكم اللبنانية.
23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018