تُعَدّ الاختلافات بين السياسات الغربية واللبنانية واضحة من حيث ديناميكيات التغيير السياسي ومدى مرونة التوجهات الانتخابية. ففي الدول الغربية، تميل الأنظمة الديمقراطية إلى منح المواطنين حرية واسعة في تغيير ولاءاتهم السياسية وفقاً لأداء الأحزاب وبرامجها وأوضاعها الراهنة. يتغيّر ولاء الناخبين في الغرب من حزب إلى آخر بناءً على تطورات السياسة والاقتصاد وأداء الحكومات، وهذا يجعل النظام السياسي في هذه الدول أكثر ديناميكية وتفاعلاً مع تطلعات المواطنين وتغيّراتهم. أما في لبنان، فيبقى الولاء السياسي محدوداً وثابتاً نسبياً، إذ يبقى المواطنون في الغالب ملتزمين بأحزاب معينة تشكلت على أسس طائفية وعائلية، مما يجعل المشهد السياسي أكثر ثباتاً وأقل تفاعلاً مع المتغيّرات.
في الغرب، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، يتمتع المواطنون بمرونة عالية في قراراتهم الانتخابية، حيث لا توجد عوائق تحول دون تغيير ولاءاتهم السياسية. هذا الأمر يرجع إلى عدة عوامل، منها النظام الديمقراطي الليبرالي القائم على تعدد الأحزاب وحرية التعبير، حيث تُتاح للمواطنين خيارات سياسية واسعة ومتنوعة تعبّر عن مختلف التوجهات الفكرية والإيديولوجية.
تؤدي هذه التعددية إلى مرونة أكبر في المشهد السياسي، فيمكن للناخب الانتقال من تأييد حزب إلى آخر استجابةً لتغيّرات السياسات أو بناءً على أداء الحزب في الحكومة. فمثلاً، في الولايات المتحدة، يمكن للناخب أن يدعم الحزب الديمقراطي في انتخابات معينة بناءً على توجهاته الليبرالية، بينما ينتقل في الانتخابات التالية لدعم الحزب الجمهوري إذا وجد أن سياساته تلبّي مصالحه. يتم تعزيز هذا السلوك أيضاً عبر وجود وسائل إعلام حرّة وقوية تتيح للمواطنين الاطّلاع على السياسات والأداء الحكومي بشكل دوري، مما يعزز الشفافية ويتيح للناخب تقييم السياسيين والأحزاب باستمرار، ولعل الانتخابات الأميركية الأخيرة كانت أبرز مثال على ذلك، وتمثل في ما يعرف بالولايات المتأرجحة، وكيف انتقلت في الانتخابات السابقة من تأييد الحزب الديمقراطي الى تأييد الحزب الجمهوري في العام 2024 والرئيس ترامب.
أما في لبنان، فتُعدّ الحالة السياسية أكثر تعقيداً، حيث لا يعتمد الولاء السياسي على البرامج السياسية والأداء الحكومي بقدر ما يعتمد على الولاء الطائفي والعائلي. لقد تأسست السياسة اللبنانية تاريخياً على مبدأ المحاصصة الطائفية، حيث يمثل كل طائفة مجموعة من الأحزاب السياسية التي ترتبط بتلك الطائفة بشكل شبه حصري. هذا النظام الذي يعتمد على الولاءات الطائفية يجعل من الصعب جداً على المواطن اللبناني تغيير ولائه السياسي، إذ يجد نفسه مرتبطاً بتوجهات طائفته أكثر من ارتباطه ببرامج الأحزاب أو نتائج أدائها، ولعل العقلية السياسية الي تدار بها الحياة السياسية ما زالت تتبع المنهجية التي قام عليها العمل السياسي منذ القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ بدء العمل بنظام المتصرفية في جبل لبنان، حيث شكّل هذا النظام الأب الروحي للعمل السياسي بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920 وحتى يومنا هذا.
يلعب العامل الطائفي دوراً حاسماً في تحديد التوجهات السياسية لدى الأفراد، حيث يعتبر الانتماء السياسي في لبنان تعبيراً عن الهوية الطائفية والاجتماعية أكثر من كونه خياراً فردياً يستند إلى المصلحة العامة. ونتيجة لذلك، يظل الانتماء الحزبي في لبنان محصوراً ضمن إطار معين لكل طائفة، حيث يرتبط المواطن بالجهة السياسية التي تمثل طائفته، ويعتبر الانتقال إلى حزب آخر بمثابة تهديد مباشر لهويته الطائفية.
هذا الثبات في الولاءات السياسية يُحدث حالة من الجمود السياسي في لبنان، ويؤدي إلى إضعاف فرص الإصلاح والتغيير. فالأحزاب اللبنانية ليست مضطرة لبذل جهود كبيرة لتحسين أدائها أو تنفيذ وعودها الانتخابية، إذ تدرك أنها تمتلك قاعدة ثابتة من المؤيدين، وهذا يقلل من المحاسبة السياسية. كما أن الولاء الطائفي يجعل المواطنين مترددين في انتقاد قادة أحزابهم أو المطالبة بتحسين الأداء، خوفًا من فقدان الدعم الطائفي أو من انقسام الطائفة.
وهذا الواقع يزيد من تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في لبنان، حيث تتردد الحكومات المتعاقبة في تنفيذ سياسات فعالة لمعالجة هذه الأزمات، بسبب الخلافات بين الأحزاب الطائفية ومصالحها المتناقضة. وبدلاً من أن يتم اختيار الأحزاب بناءً على برامج اقتصادية واجتماعية قابلة للتنفيذ، يتم انتخابها بناءً على قدرتها على الحفاظ على حقوق الطائفة وتأمين مصالحها داخل الدولة، وهذا يعطّل أي جهود تهدف إلى بناء نظام سياسي يستند إلى الكفاءة والنزاهة والشفافية.
بالرغم من هذا الواقع، توجد بوادر للتغيير في التوجهات السياسية اللبنانية، خاصةً بين الشباب الذين بدأوا ينظرون إلى السياسة من منظور أوسع يتجاوز الولاءات الطائفية. كما شكل الاغتراب اللبناني عاملاً مؤثراً إضافياً ومؤشراً قوياً على تزايد الوعي بين اللبنانيين بأهمية التغيير والإصلاح، وأبدى العديد من المواطنين استعداداً للتخلّي عن الولاءات التقليدية ودعم حركات جديدة تسعى إلى بناء دولة مؤسسات تقوم على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية.
ومع ذلك، فإن تحقيق تغيير حقيقي في الساحة السياسية اللبنانية يتطلب جهوداً كبيرة وإصلاحات جذرية، تشمل تعديل النظام الانتخابي وتفعيل دور المجتمع المدني وتعزيز استقلالية القضاء. فقط من خلال هذه الإصلاحات يمكن تقليص تأثير الولاءات الطائفية وتعزيز الديمقراطية في لبنان، بحيث يصبح ولاء المواطن مرتبطاً ببرامج الأحزاب وأدائها، كما هو الحال في الدول الغربية.
في الختام، يظهر الفرق بوضوح بين السياسة الانتخابية في الغرب، حيث المرونة السياسية وانتقال الولاءات بناءً على الأداء والبرامج، وبين السياسة اللبنانية التي تعتمد بشكل كبير على الولاءات الطائفية. هذا الاختلاف يعكس مدى تأثير النظام الاجتماعي والثقافي على تشكيل الأنظمة السياسية. ففي حين يتمكن المواطنون في الغرب من مساءلة السياسيين وتغيير ولاءاتهم بناءً على الكفاءة، يبقى اللبنانيون مقيدين بنظام طائفي يعوق قدرتهم على إحداث تغيير حقيقي. ولكن الأمل يظل موجوداً بظهور جيل شاب يسعى إلى تجاوز هذه القيود، وهو ما قد يؤدي في المستقبل إلى بناء لبنان أكثر تعددية وديمقراطية.