سوليكا علاء الدين
كثيرة هي التصاريح والبيانات الموعظة حيناً والمحذّرة أحياناً عن مستقبل قاتم لهذا الوطن، إلاّ أنّ ما شدّ الانتباه ولفت النظر هو ذاك البيان الصادر عن مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر، والذي يُعتبر الأشدّ والأدقّ اختصاراً للواقع المرير والصورة الأبشع لمسؤولين خانهم العقل والضمير، يعيشون في عالم افتراضي لا يحسّون ولا يرون بل يتباهون بأنّهم يحاولون إيجاد حلول ناجعة وبين المحاولة والتصميم تبعدهم مصالحهم الضيّقة عن إنقاذ وطن أليم".
فبعد مهمّة استمرّت لأسبوعين من أجل دراسة الفقر في لبنان، ختم المسؤول الأممي زيارته بتوجيه انتقادات لاذعة للسلطات اللبنانية في ظلّ الاستمرار في إتّباع أساليب اللاّمبالاة والإهمال. وفي تصريح مزلزل له لوكالة "رويترز"، اعتبر دي شوتر أنّ مسؤولي الحكومة اللبنانية ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرك العاجل، أو العزم اللازم، لتحمل مسؤولياتهم إزاء أزمة اقتصادية أدّت إلى "إفقار وحشي" للمواطنين. ولم يخف دهشته من حقيقة أنّ هذه دولة في طريقها للفشل، إن لم تكن فشلت بالفعل، وأنّ احتياجات السكان لم تتم تلبيتها بعد، إذ يعيش المسؤولون في عالم خيالي وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل البلاد.
كما أوضح أنّ ما قامت به السلطات من تدمير للعملة الوطنية، وإدخال البلد في مأزق سياسي دمّر حياة الناس وأغرق لبنان في فقر مدقع، وقد تسبّب تقاعس الحكومة عن مواجهة هذه "الأزمة المصنعة" غير المسبوقة بحالة بؤس شديد تحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. هذا ولم يكتف دي شوتر بهذا الحدّ، بل أكّد على أنّ لبنان ليس دولة منهارة بعد، لكنه على شفير الانهيار، وحكومته تخذل شعبها بعدما كان ذات يوم منارة تمتلك قدرات عالية وتتميّز بمستويات عالية في التنمية البشرية تسترشد بها المنطقة. وأردف قائلاً، إنّ أوجه عدم المساواة في لبنان بلغت مستويات غير مقبولة منذ أعوام وحتى قبل بداية الأزمة، معزّزة بنظام ضريبي يكافئ القطاع المصرفي، ويشجع التهرب الضريبي، ويركز الثروة في أيدي قلة، في وقت يتكبّد فيه السكان ضرائب تنازلية تصيب أشد الناس فقراً معتبراً إيّاها كارثة من صنع الإنسان استغرق صنعها وقتاً طويلاً.
كما أشار إلى الخسارة الهائلة للثروة مظهراً أنّ خسائر القطاع المصرفي اللبناني التي جرى تقديرها في خطة الحكومة لعام 2020 البالغة نحو 83 مليار دولار يجب أن يتحمّلها المساهمون في البنوك وكبار المودعين، وليس المواطنين العاديين، كاشفاً أنّ العلاقة المعقّدة بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي لا تزال مقلقة للغاية. وأضاف أنّه على الحكومة أن تكون قدوة وأن تعلن عن جميع الإيرادات والحصص والمصالح المالية، وأن تخصص الموارد لآليات المساءلة الحقيقية. فالمجتمع الدولي لن يصدّق التزاماتها بالإصلاح ولن يلمس جديتها في تطبيق مبدأ الشفافية والمساءلة إلا إذا التزمت بشكل جدي به معلناً أنّ صبر مجتمع المانحين بدأ ينفد مع الحكومة اللبنانية.
من ناحية أخرى، انتقد مقاربة الطبقة السياسية للأزمة واعتمادها على مساعدات المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية التي من شأنها إضعاف مؤسسات الدولة، مبدياً أسفه لعدم وجود خطة موثوقة لتخفيف حدة الفقر متسائلاً علام أنفق القادة السياسيون الموارد؟ هذا ولم يحجب دي شوتر صدمته المتعلّقة بانفصال المؤسسة السياسية عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض، لافتاً إلى تجاهل لبنان وافتقاره نظام شامل للرعاية الاجتماعية ومؤكداً على ضرورة إعطاء الحكومة الأولوية لوضع حد أدنى من الحماية الاجتماعية الكاملة للتخفيف من حدّة الأزمة على السكان. لبنان لديه فرصة لإعادة النظر في نموذجه الاقتصادي عبر اقتراح خطة موثوقة لتحويل الاقتصاد، ومعالجة عدم المساواة، وضمان العدالة الضريبية، والحؤول دون المزيد من المآزق السياسية، إذ إنّ الاستمرار في تحفيز نموذج فاشل قائم على الريعية وعدم المساواة والطائفية لا يؤدّي إلّا إلى إغراق السكان أكثر في العوز.
أمام هذا الاعتراف الدولي القاسي والمدوّي الذي أُقرّ بشكل علني وصريح بفشل الدولة وعجز مسؤوليها وإيصالهم البلد إلى قعر الهاوية، يبقى اللبنانيّون رهينة بأيدي هذه الطبقة السياسيّة المتخاذلة التي تتلاعب بحياتهم ومستقبلهم ومصيرهم. فلبنان الغارق بأزماته ما زال ينتظر رجال دولة وصحوة ضمير لانتشاله من محنته وإنقاذ شعبه من مآسي الجوع والقهر والحرمان بعد أن أصبح مسجّلاً على لائحة الفقر المتعدد الأبعاد وغير قادر على الصمود والنجاة.
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.